الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مناسبة قوله تعالى: {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} لما قبله: قال البقاعي:ولما كان الصوم شديد الملابسة للمساجد والاعتكاف وكانت المساجد مظنة للاعتكاف وكان سبحانه قد أطلق في صدر الآية الإذن في الوطء في جميع الأماكن والأحوال غير حال الصوم خص من سائر الأحوال الاعتكاف ومن الأماكن المساجد فعقب ذلك بأن قال: {ولا تباشروهن} أي في أي مكان كان {وأنتم عاكفون} أي بايتون مقيمون أو معتكفون، ومدار مادة عكف على الحبس أي وأنتم حابسون أنفسكم لله {في المساجد} عن شهواتها بنية العبادة و{في المساجد} ظرف لعاكفون، فتحرم المباشرة في الاعتكاف ولو في غير المسجد، وتقييد الاعتكاف بها لا يفهم صحته في غير مسجد، فإنه إنما ذكر لبيان الواقع وليفهم حرمة الجماع في المساجد، لأنه إذا حرم تعظيمًا لما هي سبب لحرمته ومصححة له كانت حرمته تعظيمًا لها لنفسها أولى، أو يقال وهو أحسن: لما كان معنى العكوف مطلق الحبس قيده بالمسجد ليفهم خصوص الاعتكاف الذي هو الحبس عبادة، فصار كأنه قال: وأنتم معتكفون، هذا معنى المبتدأ والخبر وما تعلق به، وكأنه جرّد الفعل ليشمل ما إذا كان اللبث في المسجد بغير نية، والحاصل أنه سبحانه وتعالى سوى بين حال الصوم حال الاعتكاف في المنع من الجماع، فإن اجتمعا كان آكد، فإن الاعتكاف من كمال الصوم وذلك على وجه منع من المباشرة في المسجد مطلقًا.قال الحرالي: وإنما كان العاكف في المسجد مكملًا لصومه لأن حقيقة الصوم التماسك عن كل ما شأن المرء أن يتصرف فيه من بيعه وشرائه وجميع أغراضه فإذا المعتكف المتماسك عن التصرف كله إلاّ ما لابد له من ضرورته والصائم المكمل صيامه والمتصرف الحافظ للسانه الذي لا ينتصف بالحق ممن اعتدى عليه هو المتمم للصيام، ومن نقص عن ذلك فانتصف بالحق ممن اعتدى عليه فليس بمتمم للصيام، فمن أطلق لسانه وأفعاله فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فإذا حقيقة الصوم هو الصوم لا صورته حتى ثبت معناه للأكل ليلًا ونهارًا، قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر» وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة أيام من كل شهر فذلك صوم الدهر» وكان بعض أهل الوجهة من الصحابة يقول قائلهم: أنا صائم، ثم يرى يأكل من وقته فيقال له في ذلك فيقول: قد صمت ثلاثة أيام من هذا الشهر، فأنا صائم في فضل الله مفطر في ضيافة الله، كل ذلك اعتداد من أهل الأحلام والنُّهى بحقيقة الصوم أكثر من الاعتداد بصورة ظاهرة- انتهى بمعناه. اهـ..مناسبة قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله} لما قبله: قال البقاعي:ولما قدم سبحانه وتعالى ذكر هذه الحرمات ضمن ما قدم في الأحكام أما في المناهي فصريحًا وأما في الأوامر فلزومًا وتقدم فيها لأن حمله سبحانه وتعالى في الأرض محارمه نبه على تعظيمها وتأكيد تحريمها باستئناف قوله مشيرًا بأداة البعد: {تلك} أي الأحكام البديعة النظام العالية المرام {حدود الله} وذكر الاسم الأعظم تأكيدًا للتعظيم، وحقيقة الحد الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر، فأطلق هنا على الحكم تسمية للشيء باسم جزئه بدلالة التضمن وأعاد الضمير على مفهومه المطابق استخدامًا فقال: {فلا تقربوها} معبرًا بالقربان، لأنه في سياق الصوم والورع به أليق، لأن موضوعه فطام النفس عن الشهوات فهو نهي عن الشبهات من باب «من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» فيدخل فيه مقدمات الجماع فالورع تركها. اهـ..مناسبة قوله تعالى: {كذلك يبين الله آياته للناس} لما قبله: قال البقاعي:ولما علا هذا البيان إلى حد لا يدركه حق إدراكه الإنسان كان كأنه قال دهشًا: هل يحصل بيان مثله لشيء غير هذا؟ فقيل بيانًا للواقع وتشويقًا إلى التلاوة وحثًا على تدبر الكتاب الذي هو الهدى لا ريب فيه: {كذلك} أي مثل هذا البيان العلي الشأن {يبين الله} لما له من العظمة التي لا تحصر بحد ولا تبلغ بعد {آياته} التي يحق لعظمتها أن تضاف إليه وقال: {للناس} إشارة إلى العموم دلالة على تمام قدرته بشمول علمه إلى أن يصل البيان إلى حد لا يحصل فيه تفاوت في أصل الفهم بين غبي وذكي، وعلل ذلك بقوله: {لعلهم يتقون} أي ليكون حالهم حال من يرجى منه خوف الله تعالى لما علموا من هذا البيان من عظمته، وأشعر هذا الإبهام أن فيهم من لا يتقي. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية، وقال أبو مسلم الأصفهاني هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتة، بل كانت ثابتة في شرع النصارى، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتًا في شرعهم، وجرى فيه على مذهبه من أنه لم يقع في شرعنا نسخ ألبتة، واحتج الجمهور على قولهم بوجوه.الحجة الأولى: أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] يقتضي تشبيه صومنا بصومهم، وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم، فوجب بحكم هذا التشبيه أن تكون ثابتة أيضًا في صومنا، وإذا ثبت أن الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، وهذه الآية ناسخة لهذه الحرمة لزم أن تكون هذه الآية ناسخة لحكم كان ثابتًا في شرعنا.الحجة الثانية: التمسك بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ} ولو كان هذا الحل ثابتا لهذه الأمة من أول الأمر لم يكن لقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ} فائدة.الحجة الثالثة: التمسك بقوله تعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} ولو كان ذلك حلالًا لهم لما كان بهم حاجة إلى أن يختانون أنفسهم.الحجة الرابعة: قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ} ولولا أن ذلك كان محرمًا عليهم وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل، لما صح قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ}.الحجة الخامسة: قوله تعالى: {فالآن باشروهن} ولو كان الحل ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله: {فالآن باشروهن} فائدة.الحجة السادسة: هي أن الروايات المنقولة في سبب نزول هذه الآية دالة على أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، هذا مجموع دلائل القائلين بالنسخ. اهـ..قال في روح البيان: {أحل لكم} تقديم الظرف على القائم مقام الفاعل للتشويق فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة إليه فيتمكن عندها وقت وروده فضل تمكن أى أبيح لكم. اهـ.قوله تعالى: {ليلة الصيام}.قال الواحدي: ليلة الصيام أراد ليالي الصيام فوقع الواحد موقع الجماعة، ومنه قول العباس بن مرادس:وأقول فيه وجه آخر وهو أنه ليس المراد من {لَيْلَةَ الصيام} ليلة واحدة بل المراد الإشارة إلى الليلة المضافة إلى هذه الحقيقة. اهـ.قال الليث: الرفث أصله قول الفحش، وأنشد الزجاج: يقال رفث في كلامه يرفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح قال تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 197] وعن ابن عباس أنه أنشد وهو محرم: فقيل له: أترفث؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء فثبت أن الأصل في الرفث هو قول الفحش ثم جعل ذلك اسما لما يتكلم به عند النساء من معاني الإفضاء، ثم جعل كناية عن الجماع وعن كل ما يتبعه. اهـ.وقال الزَّجَّاج:- ويُروى عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما- إِنَّ الرَّفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجُلُ من المَرْأَةِ، وقيل: الرَّفث: الجِمَاعُ نفسُهُ، وأنشد: الكامل: وقول الآخر: المتقارب: ولا دليل؛ لاحتمالِ إرادة مقدِّمات الجماع؛ كالمداعَبَةِ والقُبْلَة. اهـ.سؤال: فإن قيل: لم كنى هاهنا عن الجماع بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] {أَوْ لامستم النساء} [النساء: 43] {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223] {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222].جوابه: السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختيانا لأنفسهم، والله اعلم. اهـ.واستدرك ابن عرفة على هذا الجواب بقوله:والجواب عندي بعكس هذا وهو أنّه مبالغة في الإباحة والتحليل فعبر عنه باللّفظ الصّريح حتى لا يبقى عندهم فيه شك ولا توهم بوجه. اهـ.سؤال: لم عدى الرفث ب {إلى}؟الجواب: قال الأخفش: إنما عدى الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21]. اهـ. .قال ابن عرفة: وقال ابن جني في سر الصناعة في مثل هذا: إنّ الرفث يتعدّى بالباء والإفضاء بإلى فذكر الرّفث ولم يذكر معموله، وذكر معمول الإفضاء ولم يذكر عامله إشعارا بإرادة الجميع وأن الكل مقصود بالذكر. اهـ..قال الألوسي: قوله تعالى: {إِلَى نِسَائِكُمْ}.والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك. اهـ..قال الفخر: قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} يقتضي حصول الحل في جميع الليل لأن {لَيْلَةَ} نصب على الظرف، وإنما يكون الليل ظرفًا للرفث لو كان الليل كله مشغولا بالرفث، وإلا لكان ظرف ذلك الرفث بعض الليل لاكله، فعلى هذا النسخ حصل بهذا اللفظ، وأما الذي بعده في قوله: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} فذاك يكون كالتأكيد لهذا النسخ، وأما الذي يقول: إن قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} يفيد حل الرفث في الليل، فهذا القدر لا يقتضي حصول النسخ به فيكون الناسخ هو قوله: {كُلُواْ واشربوا}. اهـ..قال أبو السعود: قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}.استئنافٌ مبينٌ لسبب الإحلالِ وهو صعوبةُ الصبر عنهنّ مع شِدة المخالطة وكَثرةِ الملابَسة بهن. اهـ..قال الفخر: قد ذكرنا في تشبيه الزوجين باللباس وجوها:أحدها: أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، سمي كل واحد منهما لباسًا، قال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن، وقال ابن زيد: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، يريد أن كل واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس.وثانيها: إنما سمي الزوجان لباسًا ليستر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحل، كما جاء في الخبر: «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه».وثالثها: أنه تعالى جعلها لباسًا للرجل، من حيث إنه يخصها بنفسه، كما يخص لباسه بنفسه، ويراها أهلًا لأن يلاقي كل بدنه كل بدنها كما يعمله في اللباس.ورابعها: يحتمل أن يكون المراد ستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت، لو لم تكن المرأة حاضرة، كما يستتر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار.وخامسها: ذكر الأصم أن المراد أن كل واحد منهما كان كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي يفعلونه، وهذا ضعيف لأنه تعالى أورد هذا الوصف على طريق الإنعام علينا، فكيف يحمل على التستر بهن في المحظور. اهـ..قال ابن عاشور: قوله تعالى: {هن لباس لكم} استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذٍ وهي استعارة أحياها القرآن، لأن العرب كانت اعتبرتها في قوله: لابَسَ الشيءُ الشيءَ، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص زنة المفاعلة حقيقةً عُرفية فجاء القرآن فأحياها وصيَّرها استعارة أَصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية. اهـ.سؤال: لم قدَّم قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}؟الجواب: قدَّم قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}؛ تنبيهًا على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها؛ ولأنَّه هوالبادئ بطلب ذلك، وكنى باللباس عن شِدَّةِ المخالطة؛ كقوله- هو النابغة الجَعْدِيُّ: المتقارب:وفيها أيضًا: المتقارب: قال القرطبيُّ: وشُدِّدتُ النُّون من {هُنَّ} لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكَّر. اهـ.
|